كم تستغرق رحلة الطيران المباشرة من دبي إلى لندن؟ إن كنا نتحدث عن رحلات اليوم، فالجواب المعتاد هو بين 7 ساعات ونصف حتى 8 ساعات. لكن الجواب يختلف بشكل كبير في حال كنا نتحدث عن العقود الماضية، ففي فترة من الفترات كانت نفس الرحلة ممكنة خلال وقت أقصر، وفي بعض الحالات خلال 3 ساعات فقط.
قد يبدو الأمر غريباً كوننا اعتدنا أن تتطور الأمور مع الزمن، لكن في مجال الطيران سارت سرعات الطائرات بشكل عكسي في الواقع، حيث أن الطائرات كانت تطير بسرعات أكبر خلال الستينيات والسبعينيات مقارنة بسرعاتها الحالية. وإن كنت تبحث عن السبب، فالجواب القصير هنا هو المال بالدرجة الأولى.
اليوم باتت جميع الطائرات التجارية تقريباً محكومة بحدود قصوى للسرعة، حيث عادة ما تكون السرعة محدودة بـ 850 كيلومتراً في الساعة. لكن في الماضي لم تكن هذه الحدود موجودة حقاً، بل أنها أتت مع الوقت.
المحتويات
طائرات كونكورد (Concorde) والسفر أسرع من الصوت
مع نهاية الستينيات، قاد تعاون بريطاني فرنسي إلى صنع طائرة حملت اسم كونكورد، وعلى عكس الطائرات التجارية حينها، كانت هذه الطائرات على السفر بسرعات هائلة تصل حتى Mach 2 (حوالي 2180 كيلومتر\ساعة)، أي ضعفي سرعة الصوت. ومع بدأ رحلاتها عام 1976، كانت كونكورد هي أسرع طائرة تجارية في العالم.
في تلك الحقبة، كانت الفكرة الأساسية هي أن مستقبل الطائرات (كما مجالات النقل الأخرى) هو الطائرات التي تقدم سرعات اعلى. وبالنسبة لكونكورد كان الأمر مثالياً. إذ كانت الطائرة قادرة على السفر من دبي إلى لندن، ومن ثم عبور الأطلسي إلى نيويورك خلال 6 ساعات فقط، أي أقل من الوقت اللازم للطائرات الأخرى لإنهاء الرحلة الأولى حتى.
المشكلة الأساسية مع كونكورد هي كونها باهظة للغاية للتشغيل، حيث كانت الطائرة تصرف الوقود بشكل سريع جداً مقارنة بالطائرات الأخرى، وبإضافة سعتها المنخفضة: 100 راكب فقط، فقد كان تشغيل الطائرة مكلفاً للغاية وبالتالي كانت أسعار التذاكر أكبر بأضعاف من الطائرات العادية.
للمقارنة، فالبيانات في الجدول أدناه تقارن بين مصاريف طائرة كونكورد وبالمقابل طائرة Boeing 787 Dreamliner:
كانت الفكرة الأساسية من طائرة كونكورد هي السرعة الكبيرة، لكن على الرغم من السرعة الكبيرة التي كان الركاب يحصلون عليها، فقد كانت الطائرة مكتظة للغاية وكانت مقاعدها صغيرة للغاية ومشابهة لمقاعد الدرجة الاقتصادية في الطائرات الأخرى، وبالتالي فقد كانت التضحية ببعض السرعة كافية ليحصل المسافرون على مقاعد أكبر بعدة أضعاف وتكلف أقل من نصف سعر تذاكر كونكورد.
خلال مسيرتها التشغيلية، كانت طائرات كونكورد خاسرة دائماً، حيث كانت تكاليف الرحلات دائماً أكبر من عائدات أسعار التذاكر. وبالوصول إلى عام 2003 تم إيقاف طائرات كونكورد نهائياً وباتت جزءاً من التاريخ فقط.
اقرأ المزيد: كيف يعمل الرادار (RADAR)؟ أهم أنظمة اكتشاف الأجسام في الجو وعلى سطح البحر
لماذا الطائرات الحديثة محدودة بسرعة 850 كيلومتر بالساعة تقريباً
بالنسبة للمحركات النفاثة المستخدمة اليوم، فمعظم هذه المحركات قادرة على تحقيق سرعات أعلى من 1000 كيلومتر بالساعة في الواقع، لكن على الرغم من ذلك لا تصل الطائرات لتلك السرعة، والسبب هنا اقتصادي بحت في الواقع.
كما هو الأمر في السيارات أو القطارات أو حتى السفن، تمتلك الطائرات مجالات سرعة اقتصادية أكثر من سواها، أي أن الطائرة تستهلك كمية وقود بالنسبة للمسافة أقل ضمن مجالات سرعة معينة، وفي حال طارت أبطأ وأسرع من المجال تعاني من ازدياد صرف الوقود عندها.
بالنسبة للطائرات، عادة ما يكون العامل الأساسي في تحديد سرعة الطيران هو مقاومة الهواء التي تتعرض لها الطائرة، حيث تبقى هذه المقاومة كتابع خطي في السرعات المنخفضة وحتى سرعة Mach 0.8 (أي 80% من سرعة الصوت)، وهنا تبدأ تيارات الهواء حول جسم الطائرة بالتشكل بطريقة غير مستقرة، حيث تكون هناك تيارات تحت صوتية وأخرى فوق صوتية. ونتيجة عدم الانسجام تعاني الطائرة من عدم الاستقرار من جهة، ومن قوة مقاومة هواء أكبر بكثير من المعتاد.
في الواقع يعد مجال السرعة بين Mach 0.8 وMach 1.2 هو المجال الأسوأ من حيث مقاومة الهواء، أي أن الطائرة التي تطير بسرعة Mach 1 تصف وقوداً أقل من نظيرتها التي تطير بسرعة Mach 1.5. وبالتالي تكون السرعات الأنسب اقتصادياً هي إما تحت Mach 0.8 أو فوق Mach 1.2. وبالنسبة للطائرات التجارية تفضل السرعات الأدنى بسبب ظاهرة موجات الصدمة عند كسر حاجز الصوت.
اقرأ المزيد: كيف تعمل أنظمة التخفي من الرادار؟ وكيف تطير الطائرات الشبحية دون أثر
مشكلة موجات الصدمة (Shock Waves)
في حال كنت تسكن قريباً من قاعدة جوية عسكرية، فالأرجح أنك تعرف موجات الصدمة الناتجة عن كسر حاجز الصوت بشكل جيد. حيث أن الأجسام التي تطير أو تتحرك بسرعة أكبر من سرعة الصوت تنتج أمواجاً شديدة ناتجة عن انضغاط الهواء أمامها بشكل سريع.
تتسبب أمواج الصدمة باهتزازات شديدة قد تصل إلى تحطيم زجاج النوافذ القريبة، كما أنها تصدر أصوات قوية مشابهة لأصوات الانفجارات. حيث أن أصوات الانفجارات المعتادة هي في الواقع أمواج صدمة ناتجة عن انفجار مادة ما.
عادة ما يصل مدى أمواج الصدمة إلى مسافات كبيرة، وفي بعض الحالات من الممكن أن تسمع على بعد عشرات او حتى مئات الكيلومترات من مكان صدورها. ومع كون الطائرات العادية تتسبب بالكثير من الإزعاج للسكان، فالطائرات الأسرع من الصوت تتسبب بإزعاج أكبر لأي مكان سكني تمر فوقه.
في الواقع وخلال حياة طائرات كونكورد، كانت الطائرة ممنوعة من السفر عبر معظم طرق الطيران، بل كانت الغالبية العظمى من رحلاتها تتم بين سواحل أوروبا الغربية عبر الأطلسي إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة، بحيث تبقى فوق المحيط طوال الرحلة تقريباً.
بالمحصلة ومع الوقت تبين أن محاولة تسريع السفر الجوي فكرة غير مجدية عموماً، فهي غير مطلوبة كفاية، كما أنها غير اقتصادية لشركات الخطوط الجوية كذلك.
مع السنوات انتقل تركيز شركات الطائرات إلى تخفيض أسعارها إلى أدنى حد ممكن، وبالنتيجة بات الطيران اليوم أرخص من أي وقت مضى، وبعدما كان حصرياً للأثرياء ورجال الأعمال طوال عقود في الماضي، فقد بات متاحاً للجميع تقريباً اليوم.
مع أننا قد لا نشاهد رحلات جوية تجارية أسرع من اليوم أبداً، فمجال الطيران لم يتوقف عن التقدم أبداً، لكن معايير تقدمه انتقلت من السرعة إلى الاقتصادية ببساطة، وربما هذا الأمر هو اتجاه للأفضل.